الفرق بين الحقيقة والخيال
مقالة طبية عامة
فارماكولوجي وعلوم أدوية, قسم الصيدلة السريرية
حقيقة, كثيرا ما يخطر ببالي أن أنده على مريض خارج من الصيدلية, أو من جانب إحدى غرف العمليات بالمستشفى, أو حتى أن أتوقف عن إلقاء إحدى المحاضرات العامة التي تعودت على إلقائها على موظفينا في الشركة التي أعمل بها
وددت كثيرا لو توقفت للحظة وقلت للجميع, أرجوكم, لا تصدقوني تماما, مع أني صادق, ولكن ليس كل ما يلمع ذهبا, فإن الذين يعرفون لا يستوون بالذين لا يعرفون (لا أقصد نفسي بالمعرفة) ولكن هذه هي الحقيقة وهذا هو الواقع الذي لابد أن يتحدث به احدهم يوما ما
أتحدث هنا عن الأدوية بشكل عام, وعن العقاقير ومستحضرات الإستخلاص الطبيعي بشكل خاص, وعن العلاجات بكل أنواعها على وجه التعميم
=-=-=-=-=-=-=-=-=–=-=-=-=-=-=-=
حقيقة ما اود قوله وباختصار هو ان من ينكر أن الأدوية هي إكتشاف مذهل وهي منتوجة تعب مضني وشاق وتفكير وتحليل وتجربة وقياس منطقي مرعب, فهو كمن ينكر الشمس في وضح النهار أو كمن ينكر على نفسه حقه بالحياة, وقد واجهت في حياتي العملية الكثيرين ممن ينكروا أمور كهذه, ومع أني أجد الكثير من الأعذار لعامة الناس والغير متخصصين بظنونهم تلك, إلا أنني أطلب منهم التوقف والتفكير للحظة فيما يقولون, فمن يستطيع إنكار مفعول البنج في غرفة العمليات؟ ومن يستطيع إنكار مفعول حبة مورفين لمريض متألم؟ ومن يستطيع إنكار مفعول سيجارة على شخص يحبها؟ أم من يستطيع أن ينكر مفعول الحشيش على الحشاشيين؟
أليست كلها مواد كيميائية؟ وهي كلها تصنف لدينا بتصنيفات دقيقة ومتخصصة؟
ولكني سأقول لكم ما هو الفرق الحقيقي بين الدواء وبين الهباء… وبين الحقيقة وبين الخيال
الحقيقة متمثلة بوجود مادة كيميائية, لها شكلها المدروس, ولها تشريحها الواضح, ولها خصائصها الكيميائية والفيزيائية والتي لا نستطيع التخلي عن التفكير بها, والحقيقة هي أن أي شيء يدخل الى جسم الإنسان -أو أي كائن حي آخر- فإنه سيتفاعل ويتأثر ويؤثر في هذا الجسم, تبعا لخصائص هذه المادة وتبعا لنوعية هذا الجسم, ولا يوجد على سبيل الإطلاق مادة تدخل دون حدوث تفاعل, حتى تلك الأدوية المزيفة التي تعطى للمرضى في حدائق التجارب المخبرية في المستشفى, لا تلبث إلا أن تحدث تفاعل (فعدم حدوث تفاعل أصلا يعتبر نوع من أنواع التفاعلات من وجهة نظر الكيمياء البحتة حيث أنه يلغي أو يؤثر ولو بنسبة ضئيلة على تفاعلات أخرى تجري في نفس المنطقة أو النسيج الحي), ولذلك وجب علينا أن نقذف من أذهاننا فكرة أن (هذه الحبة طبيعية فإذا لن تؤذينا) وعلينا أن نقذف من أذهاننا فكرة (أن الأدوية كلها مزيفة ولا يوجد ما يشفينا سوى الله), فالله تعالى وفقنا للوصول الى العلوم لأنه أراد أن شفينا بأساليبه الخاصة المنبثقة من العلم, والغير منبثقة من الخرافة والجهل المرضي
=-=-=-=-=-=-=-=-=–=-=-=-=-=-=-=
يعني أريد القول أن العلوم صحيحة, وان الشفاء موجود, وأن التأثير موجود, ولكن هناك عوامل كثيرة أخرى تؤثر على منظومة العلاج وليست فقط نوعية الدواء, فأنا لا أستطيع (ولا أعتقد أي متخصص في المجال الطبي يستطيع أيضا) أن ينكر مدى قدرة التأثر النفسي على التأثير على العلاج المطروح, فمثلا من الممكن أن يستخدم الإنسان حبة دواء مزيفة تماما, ولكنه يشعر بالتحسن والتقدم صحيا, فمن هو الذي حسنه؟ وما هي المادة التي أدت الى هذا التقدم؟
إنها النفس البشرية فقط ولا غير, حيث أنها (آمنت) بأنها تناولت علاجا, وبهذا (حققت) شرطا من شروط النجاح والتقدم ألا وهي الإيمان بقضية العلاج وأنني سأشفى, وبتدخل القدرة الدينية الغريبة والفائقة على التأثير, وبتدخل الدعاء والصلاة (لتثبيت المفهوم) فإن الإنسان يشعر بتحسن, ولكن هذا التحسن له ما يبرره أيضا فيسيولوجيا وكيميائيا داخل جسم الإنسان, فهناك سلسة عميقة ومتشعبة من التفاعلات الكيميائية الطبيعية التي تحدث, والتأثيرات الهرمونية التي تحدث, والتي تحث الجسم على التسريع بالشفاء وعلى إيصال الدعم المطلوب كاملا وبدون نقصان من الداخل
نحن في داخلنا نملك أساليب العلاج القويمة ولكننا نأبى أن نكتشفها لندعم بها علاجاتنا الخارجية
نفس هذا الكلام مطبق على العلاجات الحقيقية, فكم واجهنا حالات مرضية كانت المفروض لتتقدم , ولكن تقدمها كان بطيئا متعبا مضنيا وذلك لعوامل كثيرة, ولكني سأركز على الجانب النفسي كون الموضوع بشكل عام اتجه الى هذا الجانب, فنراها تتناول العلاجات القاسية, وتأخذ المواد الكيميائية مفعولها المتوقع, ويبدأ المريض بالتحسن, ولكن نوعية التحسن تبدوا للمتخصص وكأنها جزء بسيط مما هو متوقع, وأشعر أحيانا وكأني أنظر الى المادة في داخل جسم الإنسان وأتخيلها تمشي هنا وتفعل ذلك هناك, ولكني أتخيل أيضا تلك القدرة النفسية التشاؤمية الهائلة على تدمير مفعول هذه المادة سريعا, فالحروب التي تحدث داخل جسم الإنسان تستحق التأمل والتفكير في كثير من الأحيان
=-=-=-=-=-=-=-=-=–=-=-=-=-=-=-=
وإذا ما حاولنا تناسي هذه النقطة والإتجاه, فإن الحالة الوراثية للشخص, وقدرته على البناء الداخلي مقارنة بعمليات الهدم, وحالة ميكانيزمات عمل اجهزته وهل هي سليمة أم لا, ونوعية غذائه وكيفية نومه وتفكيره, وإتجاهات عقليته المستقبلية, كما وحالة المغناطيسية المحيطة بجسده وتأثير البيئة والتلوث وأسلوب تناول العلاج والشكل الدوائي للعلاج وكمية المادة الفعالة وتركيزها , كما وحالة المحيطين به النفسية وقدرته على الإنتاج والعمل, وهل هو وحيد نفسيا أم لا, وهل هو متفائل أم لا…والخ الخ الخ
كلها تصب في قالب واحد وهي نتيجة العلاج
أتمنى من كل طالب علم أو مفكر ان لا يستثني شيئا عندما يتحدث عن العلوم, فما يقال في الدراسات والمحاضرات العلمية هو صحيح, ولا نستطيع إنكاره, فزيت شجر الشاي معقم, أثبت بالتجربة, انتهى النقاش, درست مكوناته, عرفت تفاعلاته, ولكن ما يثير النقاش الجيد هنا, هو من هو المريض؟ وليس ما هو الدواء
وددت في هذه المرة أن أتحدث بشكل أعمق عن موضوع العقاقير الطبيعية والنباتات, ولكني أتركها للمقالة القادمة لكي لا أطيل عليكم
أستنتج شخصيا من الكلام الماضي أمرين
الحقيقة هي أنك تستطيع (بمساعدة العلم أيضا) أن تنتج أكثر
الخيال هو أنك أيضا تستطيع (بمساعدة الفكر أو الكذب) أن تنتج أيضا
نوعية وكمية الإنتاج (والإستمرارية بعد توقف العملية) تحددها هل كان إعتمادك على الحقيقة أم على الخيال
وتحددها من هو المريض؟ وليس ما هو الدواء
تحياتي
